سورة سبأ - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (سبأ)


        


{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} بالتشديد: كوفي أي حقق عليهم ظنه أو وجده صادقاً، وبالتخفيف: غيرهم أي صدق في ظنه {فاتبعوه} الضمير في {عَلَيْهِمْ} و{اتبعوه} لأهل سبإ أو لبني آدم. وقلل المؤمنين بقوله {إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين} لقلتهم بالإضافة إلى الكفار {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين} [الأعراف: 17] {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ} لإبليس على الذين صار ظنه فيهم صدقاً {مِنْ سلطان} من تسليط واستيلاء بالوسوسة {إِلاَّ لِنَعْلَمَ} موجوداً ما علمناه معدوماً والتغير على المعلوم لا على العلم {مَن يُؤْمِنُ بالآخرة مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلّ شَئ حَفُيظٌ} محافظ عليه وفعيل ومفاعل متآخيان {قُلْ} لمشركي قومك {ادعوا الذين زَعَمْتُمْ مّن دُونِ الله} أي زعمتموهم آلهة من دون الله، فالمفعول الأول الضمير الراجع إلى الموصول وحذف كما حذف في قوله {أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولاً} [الفرقان: 41] استخفافاً لطول الموصول بصلته. والمفعول الثاني آلهة وحذف لأنه موصوف صفته {مِن دُونِ الله} والموصوف يجوز حذفه وإقامة الصفة مقامه إذا كان مفهوماً، فإذاً مفعولا زعم محذوفان بسببين مختلفين، والمعنى ادعوا الذين عبدتموهم من دون الله من الأصنام والملائكة وسميتموهم باسمه والتجئوا إليهم فيما يعروكم كما تلتجئون إليه وانتظروا استجابتهم لدعائكم كما تنتظرون استجابته، ثم أجاب عنهم بقوله {لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ} من خير أو شر أو نفع أو ضر {فِى السماوات وَلاَ فِى الأرض وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ} وما لهم في هذين الجنسين من شركة في الخلق ولا في الملك {وَمَا لَهُ} تعالى: {مِنْهُمْ} من آلهتهم {مّن ظَهِيرٍ} من عوين يعينه على تدبير خلقه يريد أنهم على هذه الصفة من العجز فكيف يصح أن يدعوا كما يدعي ويرجوا كما يرجى.
{وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} أي أذن له الله يعني إلا من وقع الإذن للشفيع لأجله وهي اللام الثانية في قولك (أذن لزيد لعمرو) أي لأجله، وهذا تكذيب لقولهم {هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} {أَذِنَ لَهُ} كوفي غير عاصم إلا الأعشى {حتى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} أي كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن و{فَزّعَ} شامي أي الله تعالى، والتفزيع إزالة الفزع و{حتى} غاية لما فهم من أن ثم انتظاراً للإذن وتوقفاً وفزعاً من الراجين للشفاعة والشفعاء هل يؤذن لهم أو لا يؤذن لهم كأنه قيل: يتربصون ويتوقعون ملياً فزعين حتى إذا فزع عن قلوبهم {قَالُواْ} سأل بعضهم بعضاً {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ} قال: {الحق} أي القول الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى.
{وَهُوَ العلى الكبير} ذو العلو والكبرياء ليس لملك ولا نبي أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه وان يشفع إلا لمن ارتضى.
{قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مّنَ السماوات والأرض قُلِ الله} أمره بأن يقررهم بقوله {مَن يَرْزُقُكُم} ثم أمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله (يرزقكم الله) وذلك للإشعار بأنهم مقرون به بقلوبهم إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به لأنهم إن تفوهوا بأن الله رازقهم لزمهم أن يقال لهم فما لكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق، وأمره أن يقول لهم بعد الإلزام والإلجام الذي إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ} ومعناه وإن أحد الفريقين من الموحدين ومن المشركين لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال، وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موالٍ أو منافٍ قال لمن خوطب به: قد أنصفك صاحبك. وفي درجة بعد تقدم ما قدم من التقرير دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى ومن هو في الضلال المبين ولكن التعرض أوصل بالمجادل إلى الغرض، ونحوه قولك للكاذب (إن أحدنا لكاذب). وخولف بين حرفي الجر الداخلين على الهدى والضلال لأن صاحب الهدى كأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء، والضال كأنه ينغمس في ظلام لا يرى أين يتوجه.
{قُل لاَّ تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} هذا أدخل في الإنصاف من الأول حيث أسند الإجرام إلى المخاطبين وهو مزجور عنه محظور، والعمل إلى المخاطبين وهو مأمور به مشكور.
{قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} يوم القيامة {ثُمَّ يَفْتَحُ} يحكم {بَيْنَنَا بالحق} بلا جور ولا ميل {وَهُوَ الفتاح} الحاكم {العليم} بالحكم {قُلْ أَرُونِىَ الذين أَلْحَقْتُمْ} أي ألحقتموهم {بِهِ} بالله {شُرَكَاء} في العبادة معه. ومعنى قوله {أَرُونِىَ} وكان يراهم أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله وأن يطلعهم على حالة الإشراك به {كَلاَّ} ردع وتنبيه أي ارتدعوا عن هذا القول وتنبهوا عن ضلالكم {بَلْ هُوَ الله العزيز} الغالب فلا يشاركه أحد وهو ضمير الشأن {الحكيم} في تدبيره {وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ} إلا إرسالة عامة لهم محيطة بهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتّهم أن يخرج منها أحد منهم. وقال الزجاج: معنى الكافة في اللغة الإحاطة، والمعنى أرسلناك جامعاً للناس في الإنذار والإبلاغ، فجعله حالاً من الكاف والتاء على هذا للمبالغة كتاء الراوية والعلاّمة {بَشِيراً} بالفضل لمن أقر {وَنَذِيرًا} بالعدل لمن أصر {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} فيحملهم جهلهم على مخالفتك.


{وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد} أي القيامة المشار إليها في قوله {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} {إِن كُنتُمْ صادقين قُل لَّكُم مّيعَادُ يَوْمٍ} الميعاد ظرف الوعد من مكان أو زمان وهو هنا الزمان ويدل عليه قراءة من قرأ {مّيعَادُ يَوْمٍ} فأبدل منه اليوم، وأما الإضافة فإضافة تبيين كما تقول (بعير سانية) {لاَّ تَسْتَئَخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ} أي لا يمكنكم التأخر عنه بالاستمهال ولا التقدم إليه بالاستعجال، ووجه انطباق هذا الجواب على سؤالهم أنهم سألوا عن ذلك وهم منكرون له تعنتاً لا استرشاداً فجاء الجواب على طريق التهديد مطابقاً للسؤال على الإنكار والتعنت وأنهم مرصدون ليوم يفاجئهم فلا يستطيعون تأخراً عنه ولا تقدماً عليه {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} أي أبو جهل وذووه {لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرءان وَلاَ بالذى بَيْنَ يَدَيْهِ} أي ما نزل قبل القرآن من كتب الله أو القيامة والجنة والنار حتى إنهم جحدوا أن يكون القرآن من الله، وأن يكون لما دل عليه من الإعادة للجزاء حقيقة {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ} محبوسون {عِندَ رَبّهِمْ يَرْجِعُ} يرد {بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول} في الجدال أخبر عن عاقبة أمرهم ومآلهم في الآخرة فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو للمخاطب: ولو ترى في الآخرة موقفهم وهم يتجاذبون أطراف المحاورة ويتراجعونها بينهم لرأيت العجب فحذف الجواب {يَقُولُ الذين استضعفوا} أي الأتباع {لِلَّذِينَ استكبروا} أي للرؤوس والمقدمين {لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} لولا دعاؤكم إيانا إلى الكفر لكنا مؤمنين بالله ورسوله {قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا أَنَحْنُ صددناكم عَنِ الهدى} أولى الاسم أي نحن حرف الانكار لأن المراد إنكار أن يكون هم الصادين لهم عن الإيمان وإثبات أنهم هم الذين صدوا بأنفسهم عنه وأنهم أتوا من قبل اختيارهم {بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ} إنما وقعت {إذ} مضافاً إليها وإن كانت (إذ) و(إذا) من الظروف اللازمة للظرفية لأنه قد اتسع في الزمان ما لم يتسع في غيره فأضيف إليها الزمان {بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ} كافرين لاختياركم وإيثاركم الضلال على الهدى لا بقولنا وتسويلنا. {وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا} لم يأت بالعاطف في {قَالَ الذين استكبروا} وأتى به في {وَقَالَ الذين استضعفوا} لأن الذين استضعفوا مر أولاً كلامهم فجيء بالجواب محذوف العاطف على طريق الاستئناف، ثم جيء بكلام آخر للمستضعفين فعطف على كلامهم الأول {بَلْ مَكْرُ اليل والنهار} بل مكركم بنا بالليل والنهار فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به وإضافة المكر إليه، أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي أي الليل والنهار مكراً بطول السلامة فيهما حتى ظننا أنكم على الحق {إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} أشباهاً.
والمعنى أن المستكبرين لما أنكروا بقولهم {أَنَحْنُ صددناكم} أن يكونوا هم السبب في كفر المستضعفين وأثبتوا بقولهم {بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ} أن ذلك بكسبهم واختيارهم، كر عليهم المستضعفون بقولهم {بَلْ مَكْرُ اليل والنهار} فأبطلوا إضرابهم بأضرابهم كأنهم قالوا: ما كان الإجرام من جهتنا بل من جهة مكركم لنا دائباً ليلاً ونهاراً وحملكم إيانا على الشرك واتخاذ الأنداد {وَأَسَرُّواْ الندامة} أضمروا أو أظهروا وهو من الأضداد وهم الظالمون في قوله {إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ} يندم المستكبرون على ضلالهم وإضلالهم والمستضعفون على ضلالهم واتباعهم المضلين {لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} الجحيم {وَجَعَلْنَا الأغلال فِى أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ} أي في أعناقهم فجاء بالصريح للدلالة على ما استحقوا به الأغلال {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في الدنيا.
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ} نبي {إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا} متنعموها ورؤساؤها {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون} هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مما مني به من قومه من التكذيب والكفر بما جاء به وأنه لم يرسل قط إلى أهل قرية من نذير إلا قالوا له مثل ما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة وافتخروا بكثرة الأموال والأولاد كما قال: {وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أموالا وأولادا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أرادوا أنهم أكرم على الله من أن يعذبهم نظراً إلى أحوالهم في الدنيا، وظنوا أنهم لو لم يكرموا على الله لما رزقهم الله، ولولا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم، فأبطل الله ظنهم بأن الرزق فضل من الله يقسمه كيف يشاء، فربما وسع على العاصي وضيق على المطيع وربما عكس، وربما وسع عليهما أو ضيق عليهما فلا ينقاس عليهما أمر الثواب وذلك قوله:
{قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ} قدر الرزق تضييقه قال الله تعالى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك {وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى} أي وما جماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم بالتي تقربكم، وذلك أن الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث، والزلفى والزلفة كالقربى والقربة ومحلها النصب على المصدر أي تقربكم قربة كقوله {أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] {إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} الاستثناء من (كم) في {تُقَرّبُكُمْ} يعني أن الأموال لا تقرب أحداً إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله، والأولاد لا تقرب أحداً إلا من علمهم الخير وفقههم في الدين ورشحهم للصلاح والطاعة. وعن ابن عباس: {إلا} بمعنى (لكن) ومن شرط جوابه {فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضعف} وهو من إضافة المصدر إلى المفعول أصله فأولئك لهم أن يجازوا الضعف ثم جزاء الضعف ثم جزاء الضعف، ومعنى جزاء الضعف أن تضاعف لهم حسناتهم الواحدة عشراً وقرأ يعقوب {جَزَاءً الضعف}، على (فأولئك لهم الضعف جزاء) {بِمَا عَمِلُواْ} بأعمالهم {وَهُمْ فِى الغرفات} أي غرف منازل الجنة {الغرفة} حمزة {ءامِنُونَ} من كل هائل وشاغل.
{والذين يَسْعَوْنَ فِى ءاياتنا} في إبطالها {معاجزين أُوْلَئِكَ فِى العذاب مُحْضَرُونَ قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق} يوسع {لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ} (ما) شرطية في موضع النصب {مِن شَئ} بيانه {فَهُوَ يُخْلِفُهُ} يعوضه لا معوض سواه إما عاجلاً بالمال أو آجلاً بالثواب جواب الشرط {وَهُوَ خَيْرُ الرازقين} المطعمين لأن كل ما رزق غيره من سلطان أو سيد أو غيرهما فهو من رزق الله أجراه على أيدي هؤلاء، وهو خالق الرزق وخالق الأسباب التي بها ينتفع المرزوق بالرزق. وعن بعضهم: الحمد لله الذي أوجدني وجعلني ممن يشتهي فكم من مشتهٍ لا يجد وواجد لا يشتهي.
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} وبالياء فيهما: حفص ويعقوب. هذا خطاب للملائكة وتقريع للكفار وارد على المثل السائر:
(إياك أعني واسمعي يا جاره) ونحوه قوله {أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى} [المائدة: 116] الآية {قَالُواْ} أي الملائكة {سبحانك} تنزيهاً لك أن يعبد معك غيرك {أَنتَ وَلِيُّنَا} الموالاة خلاف المعاداة وهي مفاعلة من الولي وهو القرب والولي يقع على الموالي والموالى جميعاً، والمعنى أنت الذي تواليه {مِن دُونِهِمُ} إذ لا موالاة بيننا وبينهم فبينوا بإثبات موالاة الله ومعاداة الكفار براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم لأن من كان على هذه الصفة كانت حاله منافية لذلك {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} أي الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير الله، أو كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت فيعبدون بعبادتها، أو صورت لهم الشياطين صور قوم من الجن وقالوا هذه صور الملائكة فاعبدوها {أَكْثَرُهُمْ} أكثر الإنس أو الكفار {بِهِمُ} بالجن {مُؤْمِنُونَ}.


{فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً} لأن الأمر في ذلك اليوم لله وحده لا يملك فيه أحد منفعة ولا مضرة لأحد، لأن الدار دار ثواب وعقاب والمثيب والمعاقب هو الله. فكانت حالها خلاف حال الدنيا التي هي دار تكليف والناس فيها مخلى بينهم يتضارون ويتنافعون، والمراد أنه لا ضار ولا نافع يومئذ إلا هو. ثم ذكر عاقبة الظالمين بقوله {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} بوضع العبادة في غير موضعها معطوف على {لاَ يَمْلِكُ} {ذُوقُواْ عَذَابَ النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ} في الدنيا {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا} أي إذا قريء عليهم القرآن {بينات} واضحات {قَالُواْ} أي المشركون {مَا هذا} أي محمد {إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هَذَآ} أي القرآن {إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرى}.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} أي وقالوا، والعدول عنه دليل على إنكار عظيم وغضب شديد {لِلْحَقّ} للقرآن أو لأمر النبوة كله {لَمَّا جَاءهُمْ} وعجزوا عن الإتيان بمثله {إِنَّ هَذَا} أي الحق {إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} بتوه على أنه سحر ثم بتوه على أنه بين ظاهر كل عاقل تأمله سماه سحراً {وَمَا ءاتيناهم مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} أي ما أعطينا مشركي مكة كتباً يدرسونها فيها برهان على صحة الشرك {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نَّذِيرٍ} ولا أرسلنا إليهم نذيراً يندرهم بالعقاب إن لم يشركوا. ثم توعدهم على تكذيبهم بقوله {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ} أي وكذب الذين تقدموهم من الأمم الماضية والقرون الخالية الرسل كما كذبوا {وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم} أي وما بلغ أهل مكة عشر ما أوتي الأولون من طول الأعمار وقوة الأجرام وكثرة الأموال والأولاد {فَكَذَّبُواْ رُسُلِى فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} للمكذبين الأولين فليحذروا من مثله. وبالياء في الوصل والوقف: يعقوب أي فحين كذبوا رسلهم جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال ولم يغن عنهم استظهارهم بما هم مستظهرون، فما بال هؤلاء؟ وإنما قال: {فَكَذَّبُواْ} وهو مستغنى عنه بقوله {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ} لأنه لما كان معنى قوله {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ} وفعل الذين من قبلهم التكذيب وأقدموا عليه جعل تكذيب الرسل مسبباً عنه وهو كقول القائل: (أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم).
{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة} بخصلة واحدة وقد فسرها بقوله {أَن تَقُومُواْ} على أنه عطف بيان لها وقيل هو بدل، وعلى هذين الوجهين هو في محل الجر. وقيل: هو في محل الرفع على تقدير وهي أن تقوموا، والنصب على تقدير أعني، وأراد بقيامهم القيام عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقهم عن مجتمعهم عنده، أو قيام القصد إلى الشيء دون النهوض والانتصاب، والمعنى إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم وهي أن تقوموا {لِلَّهِ} أي لوجه الله خالصاً لا لحمية ولا عصبية بل لطلب الحق {مثنى} اثنين اثنين {وفرادى} فرداً فرداً {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ} في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، أما الاثنان فيتفكران ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه وينظران فيه نظر الصدق والإنصاف حتى يؤديهما النظر الصحيح إلى الحق، وكذلك الفرد يتفكر في نفسه بعدل ونصفة ويعرض فكره على عقله.
ومعنى تفرقهم مثنى وفرادى أن الاجتماع مما يشوش الخواطر ويعمي البصائر ويمنع من الروية ويقال الإنصاف فيه ويكثر الاعتساف ويثور عجاج التعصب ولا يسمع إلا نصرة المذهب. و{تَتَفَكَّرُواْ} معطوف على {تَقُومُواْ} {مَا بصاحبكم} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {مّن جِنَّةٍ} جنون. والمعنى ثم تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} قدام عذاب شديد وهو عذاب الآخرة وهو كقوله عليه السلام: «بعثت بين يدي الساعة» ثم بين أنه لا يطلب أجراً على الإنذار بقوله:

1 | 2 | 3